يمحو الله ما يشاء ويثبت

جاء في زاد المسير للإمام ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى:

﴿یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ [الرعد ٣٩]


واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِالَّذِي يَمْحُو ويُثْبِتُ عَلى ثَمانِيَةِ أقْوالٍ:

أحَدُها: أنَّهُ عامٌّ في الرِّزْقِ، والأجَلِ، والسَّعادَةِ، والشَّقاوَةِ، وهَذا مَذْهَبُ عُمَرَ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وأبِي وائِلٍ، والضَّحّاكِ، وابْنِ جُرَيْجٍ.

والثّانِي: أنَّهُ النّاسِخُ والمَنسُوخُ، فَيَمْحُو المَنسُوخَ، ويُثْبِتُ النّاسِخَ، رَوى هَذا المَعْنى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، والقُرَظِيُّ، وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ أيْ: يَنْسَخُ مِنَ القُرْآنِ ما يَشاءُ ﴿وَيُثْبِتُ﴾ أيْ: يَدَعُهُ ثابِتًا لا يَنْسَخُهُ، وهو المُحْكَمُ.

والثّالِثُ: أنَّهُ يَمْحُو ما يَشاءُ، ويُثْبِتُ، إلّا الشَّقاوَةَ والسَّعادَةَ، والحَياةَ والمَوْتَ، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ودَلِيلُ هَذا القَوْلِ ما رَوى مُسْلِمٌ في " صَحِيحِهِ " مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " «إذا مَضَتْ عَلى النُّطْفَةِ خَمْسٌ وأرْبَعُونَ لَيْلَةً، يَقُولُ المَلَكُ المُوَكَّلُ: أذَكَرٌ أمْ أُنْثى ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ تَعالى، ويَكْتُبُ المَلَكُ، فَيَقُولُ: أشَقِىٌّ أمْ سَعِيدٌ ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، ويَكْتُبُ المَلَكُ، فَيَقُولُ: عَمَلُهُ وأجَلُهُ ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، ويَكْتُبُ المَلَكُ،ثُمَّ تُطْوى الصَّحِيفَةُ، فَلا يُزادُ فِيها ولا يُنْقَصُ مِنها» " .

والرّابِعُ: يَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ، إلّا الشَّقاوَةَ والسَّعادَةَ لا يُغَيَّرانِ، قالَهُ مُجاهِدٌ.

والخامِسُ: يَمْحُو مَن جاءَ أجْلُهُ، ويُثْبِتُ مَن لَمْ يَجِئْ أجْلُهُ، قالَهُ الحَسَنُ.

والسّادِسُ: يَمْحُو مِن ذُنُوبِ عِبادِهِ ما يَشاءُ فَيَغْفِرُها، ويُثْبِتُ ما يَشاءُ فَلا يَغْفِرُها، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

والسّابِعُ: يَمْحُو ما يَشاءُ بِالتَّوْبَةِ، ويُثْبِتُ مَكانَها حَسَناتٍ، قالَهُ عِكْرِمَةُ.

والثّامِنُ: يَمْحُو مِن دِيوانِ الحَفَظَةِ ما لَيْسَ فِيهِ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، ويَثْبُتُ ما فِيهِ ثَوابٌ وعِقابٌ، قالَهُ الضَّحّاكُ، وأبُو صالِحٍ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ: القَوْلُ كُلُّهُ يُكْتَبُ، حَتّى إذا كانَ في يَوْمِ الخَمِيسِ، طُرِحَ مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، مِثْلُ قَوْلِكَ: أكَلْتُ، شَرِبْتُ، دَخَلْتُ، خَرَجْتُ، ونَحْوُهُ، وهو صادِقٌ، ويُثْبِتُ ما فِيهِ الثَّوابُ والعِقابُ.

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أصْلُ الكِتابِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: وَهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ ما يَكُونُ ويَحْدُثُ. ورَوى أبُو الدَّرْداءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «إنَّ اللَّهَ تَعالى في ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ يَنْظُرُ في الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ» " . ورَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: هُما كِتابانِ، كِتابٌ سِوى أُمِّ الكِتابِ يَمْحُو مِنهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ، وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ لا يُغَيَّرُ مِنهُ شَيْءٌ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

📚 مغناطيس الأرزاق

الضنائن..